هامات النخيل الباسقة توازيه علوا..ومن تحته كان دجلة يمشي بلمعان و هو يلتحف الاصيل فيما كان خده المحترق باشعة الشمس يصافح النسمات الباردة المضمخة بمياهه الرقراقة...يرتعش في داخله حنين لشيء مجهول.. تعتصره النشوة..فيشعر بلذة فريدة فيما تشتهي عيناه الدموع..هكذا كان كلما اعتلى الجسر وهو يطوق خصر دجلة مثل ذراع مفتول لرجل يحتضن حبيبته.. يهز يديه بصمت واستياء يقلب نظراته نحو وجه الماء محاولا غسلها بعذوبة النهر يبتلع نظراته و يتطلع نحو الطريق..يسترجع ذاكرته وهو يستل من بين اصابع الدخان المرصوفة وسط علبتها سيجارة...يحرق اولها بنار قداحته الزهيدة...تتوهج بفعل الامتصاص الشره لعقبها ومن ثم يرخي فمه ذا الشفاه البنفسجية عن كومة من الدخان المتصاعد وهي تنساب الى اعلى مثل شلال معكوس! تنفلت الصور من ذهنه مشكلة فلما سينمائيا مرتبكا تزدحم فيه المشاهد وسط نشوة الماضي..ايام دراسته في الجامعة..اناقته السالفة..قصائده اللاتي كان يلهب بها حماس المراهقين والعشاق من اقرانه..الامل الذي كان يشع في محياه كلما تأمل في المستقبل ومن ثم كيف شهد انهدام ذلك الهرم فجأة اثناء الفصل من الوظيفة و الاعتقال المر..التعذيب الذي انساه حتى تاريخ ميلاده مثلما كان يتندر دخوله حروبا كجندي مكلف طيلة سنوات كلفته اثنين من اصابع يده اليمنى..يحرق سيجارة اخرى ليلتهم فمه الشره دخانها المحتبس يلتهب الجو الملتهب اصلا فيرجع انسكاب ذلك الشلال المعكوس..ثيابه الرثة.وشعره الرمادي المترهل بلا ترتيب...وتقدم سنه الذي سمح لوجنتيه ان تتهدلا محدثتين فراغا هلاليا داكنا تحت عينيه..كل ذلك بالاضافة الى منظره الشارد كان مانعا من ان ينتقده الركاب الاخرون..كمية الشلال الدخاني تزداد داخل السيارة و حرارة الجو تسقط صبر احدهم:
-عمي والله ذبحتنه..أطفئ سيجارتك..(بجزع)
-..........(بنظرات شزرة)
تسير المركبة بطيئة بفعل الازدحام..تتوقف..تتركز حرارة الجو داخل السيارة فيما اخذت الشمس تسلط سيف اشعتها على رؤوس الجالسين في جانبها الايمن حيث كان هو جالساً..ينسل احدهم يفتح الباب بانفعال ليبتلعه الشارع الملسوع بأشعة الشمس..وفي ظل صمته الصارخ ارخى اهدابه وهو يحدق في شلالات الضوء المنسكبة بتراكمية فوق الاسفلت الترب بحثا عن اقرب قمامة!! انسابت مركبتهم وسط الشارع الذي اخذ يتسع بفضل تشعبه الى اربعة طرق..فيما اخذت رئتاها الزجاجيتان تعبان الهواء الساخن ليشتت خيوط الدخان المتصاعدة من فمه المدخني..كان محرك السيارة يئن..ولوحات المحال التجارية تسير الى الخلف مثل قطار مسرع نحو نهاية رحلة طويلة......
-نازل عيوني (قالها بتأن مسرحي)
قذف بنفسه خارج السيارة بعد توقفها مثل عصفور ليفلت لاول مرة..فيما راحت سترته المتهرئة تخضع لتمايلاته الفوضوية،وقد بدا ساهما وهو يكرر سيناريو التدخين.توجه نحو ضالته.وسط تلك الجزرة الوسطية كانت تتربع حاوية كبيرة للنفايات..لم يجد من يزاحمه هذه المرة فقد سبق الجميع لهذا الكنز..لا مثل المرة السابقة حين حرمه صبي من جمع تلك العلب الفارغة وهو ينط امامه ذاهبا الى حاوية اخرى..اقبل نحو تلك القمامة / الصيد التي سيفترسها وحده..نظر الى جانبيه بقلق كمن يحاول سرقة شيء ثمين..ولما لم يجد احدا انفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة لم تفلح في اطلاق سراح ذلك العقب الازلي الحبيس بين الشفتين..عندها اخرج كيسا كبيرا ابيض ملطخا بالسخام..فتح ثغره الذي قد عب آلاف العلب الفارغة فيما مضى..آه كم تشبه هذه العلب كثيرا من الذوات (هكذا كان يفكر) تحرك نحو تلك القمامة...نبشها بكلتا يديه ليخرج العلب المعدنية ثم يدوسها بباطن قدميه لتضغط كي يستوعبها الكيس السخامي الذي سيشق طريقه الى الشركة المعنية فيما لم تفتأ شفتاه من مص الدخان..مسح اللمعان اللزج فوق جبينه ورفع رأسه ليساوي ظهره الذي آلمه الانحناء قليلا وقال بتأفف:
-بنت الكلب كل هذا التعب..وتقولين (عطال بطال)..!!؟
كان يجد متعة في سلق المفردات النابية الموجهة عن بعد لزوجته التي كان يعتقدها سبباً رئيساً في الحال الذي وصل اليه...مداريا بذلك فشله في التصدي لسيل كلماتها المؤنبة كلما انطلقت داخل ذلك البيت العتيق الذي اقتسمه ومؤجره الى نصفين..رمى علبة السجائر بعد ان استل اخر لفافة فيها وجلس يتصفح ذاكرته..لاحت منه التفاتة: الى يمينه..ابتسم
-هذا انت يا نعيم..لا اصدق..متى جئت..؟
-...
-شوف حالي يا نعيم..بعد ما رحت انت وجواد..بقيت متسكعا..وحيدا..آخ..لو رايح وياكم..نظارتك وسخة؟انظفها لك؟
-....
- لم لا تتكلم؟ صحيح كيف كان الحبل الذي لفوه على رقبتك.. لابد انك احسست بالاختناق؟ولم تسعل كعادتك...؟
-......
- آه..وكيف كان الرصاص وهو يخترق جسد جواد وكيف كان طعم الدخان المتصاعد منه وهو يشوي جسمه..؟
فيما كان (نعيم) ينظر اليه بسكون فوتوغرافي ثم اردف:
- يا الله خلينا من هذا الكلام..لم لا تدخن؟بيبسي احسن؟قام ليخرج علبة (فارغة) من داخل كيسه..ووضعها على التراب كمن يقدمها لشخص ما..! قال وهو يقدمها للصورة الورقية الملقاة فوق الارض: يا الله (نعومي) اشرب حتى اوصي على (طاولي) من زمان ما غالبك..وقد امتلأ وجهه بابتسامة سمجة مشوبة بسعال منعته من رؤية ذلك الصبي وهو يحزم كيسه الرمادي المعبأ بتلك العلب الفارغة.جن جنونه وهو يعود للواقع ليرى تعبه وقد تسرب مثل رياح في اشرعة ممزقة انفجر وتشظى...انطلق نحو هدف مجهول اخذ يعب الارض بقدميه النحيلتين بذهول وامتعاض..لم يجد غير الصمت المطبق ردا.ولما لم يجد مبتغاه عاد منطويا الى حيث القمامة لكنه شاهد عن بعد (نعيماً) ينهض بسرعة فائقة..ينطلق نحو الشارع..يرتطم بالرصيف..ينهض مرة اخرى بفعل الهواء ايضا..لم يحتمل رحيل (نعيم) الفجائي الذي انساه ما هو فيه.صاح بصوت اجش ضعيف انهكته السجائر:
-(نعييييييم)..لا تتركني مرة اخرى...
لم يكن يشعر بانطلاق ساقيه نحو الشارع فكل همه الامساك بصورة صديقه التي فزت فجأة في لحظة ترقب مثل قبرة ترى صيادا...لم تكن الا ثوان قليلة حتى احس بامتلاء جسده بصدمة..منعت عنه ضوء الشمس...وسمرت فيه الانطفاء...